مقارنة بجنود قتلوا ثم ذبحوا ثم نكل بأجسادهم ثم جردوا من ألبستهم إمعاناً في التنكيل، هل سيصبح رمي المعارضين بالرصاص أمام بيوتهم أقل أشكال الموت فظاعة في تونس؟ لقد بدأ التونسيون يعتادون على أن يزف إليهم خبر الشهادة يوماً بعد يوم وأصبحت الزغاريد رمزاً لتشييع الجثامين ولسان حال الجميع يقول: من الآتي؟ إلا الساسة، كل الساسة، فلا زالوا يتخبطون في وحل الكراسي وينعقون في كل المنابر: من المستفيد؟! ولعمري، ما أتفه هذا السؤال حين يعجز الحكام أمام مصاب التونسيين وفاجعتهم، لا يقدمون لهم إلا التعازي والخطابات الجوفاء.
تونس اليوم في أزمة تراكمت أسبابها منذ غداة انتخابات 23 أكتوبر 2011 حين انطلقت المشاورات على أساس المحاصصات الحزبية ومنطق الرابحين والخاسرين والتكالب على الحكم وتناسى النواب (أو بالأحرى النوائب) أنهم ممثلوا مصالح الشعب لا المصالح الحزبية الضيقة والكل عموما يتجاهل أن مصلحة الوطن تكمن في تسريع مسار الانتقالي والخروج في أقرب الآجال من هذا الوضع الشبيه بالمنزلة بين المنزلتين. وما زاد الطين بلة أن مركز السلطة انتقل من باردو إلى القصبة، ليصبح المجلس الوطني التأسيسي مجرد هيكل تصديق لممارسات الحكومة ومصادقة لقرارات مجلس شورى الحزب الحاكم.
وعموماً فأسباب الأزمة كثيرة ولو نحن أردنا تعدادها لما اتسعت لها هذه الصفحات ولكن حكومات الأربعين وزيراً أبت إلا التكبر، واليوم ها نحن أمام طريق مسدود نبحث عن حل يحقن دماء التونسيين فلا نجده في النصوص وحتماً لن نجده في أروقة مقرات الأحزاب.
هل يمكن حل المجلس الوطني التأسيسي قانوناً؟: في الشرعية
منذ اغتيال النائب بالمجلس الوطني التأسيسي التونسي محمد البراهمي، تعالت الأصوات بضرورة حل هذه المؤسسة وجميع السلطات المنبثقة عنها عل البلاد ترتقي من غياهب التيه التي انحدرت عليها إلى القاع. ويأتي هذا المطلب كإعلان لفشل هذه المؤسسات في طرح حلول للمشاكل العاجلة والخانقة التي تواجهها البلاد وعلى رأسها الملف الأمني، ووضع حد لسياسة التمديد في مرحلة الانتقال. ففي حين يؤسس خطاب السلطة على النموذج الفكري (Paradigm) للشرعية (إلى حد استنزاف المصطلح في أغلب الأحيان وإفراغه من مدلولاته) وعلى فكرة أن المجلس سيد نفسه في كل القرارات التي يتخذها لا سلطة تعلوه ولا رقابة تحد تجاوزاته. يستند المناهضون لهذا الخطاب على ديباجة المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 والمتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي التي أسست أسباب إصدار المرسوم على " إرادة الشعب التونسي في انتخاب مجلس وطني تأسيسي يتولّى وضع دستور جديد للبلاد" وعلى الأمرين عدد 582 وعدد 1086 لسنة 2001 المؤرخين تباعاً في 20 ماي 2011 و3 أوت 2011، والمتعلقين بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي إذ جاء في الفصل السادس لكليهما: "يجتمع المجلس الوطني التأسيسي بعد تصريح الهيئة المركزية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالنتائج النهائية للإقتراع و يتولى إعداد دستور للبلاد في أجل أقصاه سنة من تاريخ انتخابه. "وعليه، فإن طبيعة المهمة المناطة بعهدة المجلس والمنحصرة في صياغة دستور تبرر اعتماد مدة سنة واحدة لا غير ولا داعي على هذا الأساس أن يعهد إليه بمدة نيابية من قبيل تلك المخصصة للمجالس المنبثقة عن انتخابات تشريعية.
تلا ذلك إصدار القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية (الدستور الصغير) والذي أكد فيه المجلس أنه صاحب السلطة الشرعية الأصلية والمكلفة من الشعب التونسي " بإعداد دستور يحقق أهداف الثورة التونسية وبالإشراف على شؤون البلاد إلى حين إرساء مؤسسات دائمة. وبالنظر إلى هذه الفقرة، يمكن التفطن مباشرة إلى الصلاحية الجديدة التي احتكرها المجلس والتي لم تكن أبداً من دواعي انتخابه ألا وهي إدارة شؤون البلاد، فبالرجوع إلى الفصل الثاني من الدستور الصغير نرى أن كتبة النص ذاتهم يعترفون أن المجلس أعطي أثناء ممارسته لصلاحية كتابة الدستور سلطة أصلية "يتولى المجلس بصفة أصلية وضع دستور للجمهورية التونسية" وهنا لا يمكن لأحد أن يناقش كونه سيد نفسه فعلويته مرتبطة بصلاحية كتابة الدستور. أما في بقية الأمور فالنص كفيل بتوضيح طبيعتها، إذ جاء في الفصل الثاني" كما يتولى بالخصوص المهام التالية:1. ممارسة السلطة التشريعية. 2. انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي. 3. انتخاب رئيس الجمهورية. 4 .الرقابة على عمل الحكومة". فالمجلس نفسه أقر أن الوظائف السابق ذكرها هي من باب الإضافة وهو ما يفهم من عبارة "كما يتولى بالخصوص" وبالتالي فإن حجة أن المجلس سيد نفسه مطلق السلطة أثناء ممارسة كل مهامه مردودة على أصحابها وتلك هي المغالطة الأولى التي جعلت من المجلس يتحول من سلطة تأسيسية إلى سلطة تشريعية نيابية تؤدي الفروع وتهمل الأصل كتابة الدستور. بل وأمعن سكان المجلس في الانقلاب على إرادة ناخبيهم والانحراف بمركز السلطة حين خصص للسلطة التأسيسية الأصلية فصلاً يتيماً في مقابل 17 فصلاً للمهام الأخرى وأسس فعلاً وقانوناً نظام حكم برلماني تستبد فيه الأغلبية ويقال فيه عن رئيس الجمهورية أنه منتخب في حين أنه انتخب كعضو في المجلس وعين رئيساً للجمهورية. فالقانون التأسيسي عدد6 بعيد كل البعد عن ضوابط المراحل الانتقالية بل الأدهى أنه فتح الباب للإنحراف بالسلطة حين أخرج السلطات الإضافية عن دائرة كل رقابة دستورية وألحقها (دون وجه حق) بدائرة السلطة الأصلية.
من ناحية اخرى، يتوضح أنه بالإضافة إلى عدم تقييد أعمال المجلس بفترة معينة فإن القانون التأسيسي عدد6 لم يذكر آليات حله كما هو الأمر بالنسبة للمؤسسات التشريعية عادة (بالرغم من تمكنيه من سلطات نيابية). ملخص القول أننا اليوم أمام مجلس "متأله" لا رقيب عليه ولا حدود له في الزمن ولا يمكن إنهاء العمل به إلا بإرادته، وانسحاب عديد النواب منه عوض تقديم استقالاتهم أكبر دليل بأن أكثر ما يمكن فعله هو تعطيل أعمال المجلس. ولكن وإن كان المجلس يستمد شرعية هذه الصفة من الدستور الصغير فلنا أن نتساءل عن مشروعية هذا القانون ومطابقته لإرادة الناخبين الذين لم يمضوا يوم إتجهوا إلى الصناديق على صك على بياض.
هل تنهي الأزمة أنصاف الحلول؟
ننظر اليوم إلى المشهد السياسي في تونس فنرى أننا فعلاً إزاء أزمة ثقة وتمثيلية. فالسياسيون كافة يرفضون الاعتراف بالفشل والكل يتراشق التهم ويحمل خصمه مسؤولية عجزه في عزلة تامة عن الشارع التونسي الذي أصبح منقسماً إلى شقين، شق رافض للجميع وشق منصرف تماما عن السياسة ومقتنع بأنها حكر على أهلها يوزعون بينهم الكراسي في صراع لا يبقى فيه إلا الأقوى.
وعلى كل حال، ومنذ اغتيال البراهمي وتركيز المطالب على حل المجلس الوطني وتكوين جبهة الإنقاذ وانطلاق اعتصام باردو وتواتر المظاهرات الداعية إلى إسقاط النظام وتلك الداعمة للشرعية، لم يقترح أي طرف سياسي خارطة طريق واضحة الآليات. فبالرجوع إلى المقترحات نرى أنها جميعها تذكر المراحل المنشودة دون أن تفصل كيف سنبلغ تحقيق تلك المراحل. فمن يدعو إلى حل المجلس وتكوين حكومة إنقاذ ولجنة خبراء لصياغة الدستور لا يرى بداً من أن يفسر لنا من أين سيستمد شرعية هذه المؤسسات (فعلى ابتذال هذه الكلمة تبقى الشرعية مسألة مفصلية) ومن ناحية أخرى لا ترى الحكومة واجباً بأن تبين لنا إمكانية انجاح مقترحها في تنظيم انتخابات في يوم الثلاثاء 17 ديسمبر 2013 على أرض الواقع. أيضاً الحلول الوسطية التي ارتأت حل الحكومة مع ضرورة الإبقاء على المجلس لا تجيب عن سؤال مشروع: كيف يمكن للمجلس أن يكون في الآن ذاته جزءً من المشكل وطرفاً في الحل؟
وعلى كل حال، وعلى اقتناعنا بأن الأيام المقبلة ستأتي إلينا بمشروع هو نتيجة المشاورات والتوافقات كما يحلو للسياسيين في تونس أن يسموا عملية البيع والشراء التي لا تقدم حلولاً وإنما هي من قبيل تأجيل المنية وفي انتظار أن يخرج الإتحاد العام التونسي للشغل ليبين موقفه ويرجح الكفة لصالح هذا أو ذاك، يجب التذكير بأن كل ما سبق من مؤشرات سياسية وإن كان لها وقع خاص على الاستقرار فإنها لا تقدم حلاً جذرياً لأم المشاكل أي الأمن بالبلاد ثم ما يليها من مشاكل اقتصادية واجتماعية. فما سبق ذكره يتموقع في خانة إعادة هيكلة مؤسسات الأمن والقضاء وهو ما وقع التغاضي عنه تواطؤاً أو تساهلاً وما التأخير في النظر في قانون العدالة الانتقالية الذي أصبح هو الآخر موضوع مساومة سياسية إلا الدليل على أن النهوض بمؤسسات الدولة هو آخر هم أصحاب القرار. وها هي تونس اليوم في مواجهة الإرهاب وال الأدلة تشير إلى تعكر الأزمة لا انفراجها في تأكيد لقول المتنبي: فإن الجرح ينفر بعد حينٍ. . . إذا كان البناء على فسادِ!